الأسرة والطفلالحياة الزوجيةتربية الأبناء

السعادة الأسرية والمعادلة الصعبة في الحب … أهو بالعقل أم بالقلب

خطوات نحو إنشاء جيل النصر الموعود

بقلم أمل ابراهيم

“حبك للشيء يعمي ويصم”

هذا مثل معروف أن الحب أعمى، بمعنى أنك عندما تحب شخصاً فإنك ترى كل شيء فيه جميل حتى مايراه الناس قبيحاً ويعني أنك تلتمس له الأعذار إذا أخطأ وتغفر له زلاته وتؤثر محبوباته على محبوباتك وراحته على راحتك.

ولكن هذا الحب ليس بيد الإنسان بمعنى أنه إذا قال لك عقلك أنك يجب أن تحب هذا الشخص فإنك قد تستطيع وقد لا تستطيع. لأن الحب شعور وعاطفة تنطلق من داخل القلب وقد لا يستطيع العقل التحكم فيها. ولو أن تحكم العقل بالعاطفة هو عين الصواب.

وفي قوله صلى الله عليه وسلم :”الأرواح جنود مجندة فماتعارف منها إئتلف وما تناكر منها اختلف” فيه إشارة إلى أن الحب ينشأ من تآلف بين الأرواح وليس بين العقول. وإن كان من الممكن أن يقع تعارف الأرواح بحسب الطباع التي جبلت عليها النفوس من خير وشر، فإذا اتفقت تعارفت، وإذا اختلفت تناكرت.

 ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:”أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله“. والحب في الله تعالى هو حب عقلي ناتج عن المعرفة بأن هذا الشخص هو إنسان صالح مطيع لله جل وعلا حافظ لحدوده فهو يستحق الحب. وإن كان أصل هذا الحب أيضاً مرتبط بالقلب لأن قلب المؤمن متعلق بالله تعالى تعلقاً شديداً ومحب له تعالى حباً جماً، فعندما يرى شخصاً آخر محباً لله وقلبه متعلق به ومؤثر لمرضاته جل وعلا فإن هذين القلبين ينجذبان لبعضهما والعقل أيضا يبارك هذا الحب ويرشده ويقويه فهو حب قوي وجميل ومرتبط بحب الله تعالى وطاعته يجمع بين التآلف القلبي والتآلف الروحي والتوافق العقلي.

والمقصود أن الحب وإن كان محله القلب إلا أنه مايزال للعقل دور في التمهيد له وايجاده و تنميته والمحافظة عليه.

وفيما يتعلق بالحياة الزوجية فعادة ما يقدم الرجل والمرأة على الزواج وكل منهما يتوقع قصة حب مليئة بالوفاء والدفء والتضحيات. والحب أساسه الأول الشعور بالرضا عن المحبوب أو الشعور بالانجذاب إليه بشدة بدون سبب معروف. وبعد الفترة الأولى من الزواج قد لا يجد أحد الزوجين نفسه راضياً عن الآخر تماماُ وقد يجد فيه شيئاً أو أشياء غير مريحة، وقد لا يجد أيضا هذا الحب. هذا مع وجود مزايا أخرى وطباع أخرى محبوبة فيه .. فكيف الحل؟

الحب لا يأتي من فراغ

إن هذا الحب الذي يبحث عنه كل زوجين لا يأتي من فراغ بل لابد من مجهود يبذله كل منهما لإنبات هذا الحب ثم يتعاهدانه حتى يقوى ويشتد عوده. وهذا يكون عن طريق أمرين: الأول هو آداء الحقوق والواجبات التي قررها الله ورسوله لكل من الزوج والزوجة والثاني هو الالتزام بمكارم الأخلاق في تعاملهما مع بعضهما، ومنها أن يحب كل واحد منهما للآخر ما يحب لنفسه وأن يؤدي إلى صاحبه مايحب أن يؤديه  صاحبه إليه وأن يقول التي هي أحسن حتى لا ينزغ الشيطان بينهما. فمكانة الحياة الزوجية والاستقرار الأسري في الإسلام عظيمة جداً لدرجة أن أعظم فتنة يفرح بها الشيطان هي التفرقة بين الزوج وزوجته، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:” إن إبليس يضع عرشه على الماء، ثم يبعث سراياه، فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة. يجيء أحدهم فيقول: فعلت كذا وكذا. فيقول: ما صنعت شيئا. قال: ثم يجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته. قال: فيدنيه منه، ويقول: نعم أنت “.

ومما لاشك فيه أن شعور كلٍ من الزوجين أنه مثار إعجاب الآخروإنه يحبه ويعتز به وأنه يقدر نفسياته ويراعي قدراته ولا يكلفه ما لا يطيق هو من أهم عوامل السعادة الزوجية والاستقرار الأسري.

الحب يجعلك تفكر في تصرفاتك وأقوالك جميعها وتأثيرها على من تحب قبل أن تتصرف أو تتكلم ويجعلك حريصاً على ألا تؤلمه أو تجرحه أو تحزنه، وتفكر فيه كأنك تفكر في نفسك بالضبط. بل إن مكارم الأخلاق وأوامر الشرع أيضاً تحضك على نفس الأمر، وانظر إلى قوله صلى الله عليه وسلم :”لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه”  وفي هذا الحديث يؤكد صلى الله عليه وسلم أنه لا يتم إيمان المرء إلا بهذا الشرط. ومعنى هذا الشرط أنك قبل الإقدام على الفعل أو القول يجب أن تفكر .. ماذا لو كنت أنا مكان هذا الشخص؟ ماذا كنت سأحب أن أجد في هذا الموقف أو ذاك؟ ولتفعل إزاء غيرك ما تحب أن يفعله غيرك تجاهك في نفس الموقف. فقد قال صلى الله عليه وسلم ” فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ ، وَيُدْخَلَ الْجَنَّةَ ، فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ”.

قليل من التفكير قبل تصرفك مع غيرك قد يكون سبباً في زحزحتك عن النار.

وحتى ما ينطق به الإنسان من كلمات والتي ربما تكون مزاحاً أو نصحاً نجد أن الله تعالى قد أمرنا أن نتخير الأحسن منها وليس فقط الحسن : ” وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا” سورة الاسراء أية 53. ومعنى ذلك أن لا يستهتر الإنسان بأقواله ولا يستهتر بنفسيات من حوله ومشاعرهم فلا يقول ما يؤذي ولو كان مزاحا ولو كان يخاطب أقرب الناس إليه، فإن هذا الكلام المسيء للغير قد يستغله الشيطان وينزغ بينهما وتصبح المحبة نفوراً وضيقاً.

لابد من المجاملات بين الزوجين

وأولى الناس بمراعاة كل هذه الأخلاق الحسنة والوصايا العظيمة هم أهل بيتك فقد قال صلى الله عليه وسلم: (خيرُكم خيرُكم لأهلِه وأنا خيرُكم لأهلِي). فلابد من الكلام الجميل و المجاملات بين الزوجين حتى تطيب الحياة ويزدهر الحب والمودة ولعل هذا أحد أسباب إباحة كذب الرجل على زوجته فقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا يَحِلُّ الْكَذِبُ إِلَّا فِي ثَلَاثٍ : يُحَدِّثُ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ لِيُرْضِيَهَا ، وَالْكَذِبُ فِي الْحَرْبِ ، وَالْكَذِبُ لِيُصْلِحَ بَيْنَ النَّاس) و قالت أم كلثوم بنت عقبة  :” لم أسمعه- أي رسول الله صلى الله عليه وسلم  يرخص في شيء مما يقوله الناس إلا في ثلاث  في الحرب ، والإصلاح بين الناس ، وحديث الرجل امرأته ، وحديث المرأة زوجها”

ولعل من الأسباب التي قد أباح صلى الله عليه وسلم الكذب في هذه المواضع لأجلها هو أن النتائج المترتبة على الكذب فيها أهم بكثير من إتيان الإنسان بالكذب نفسه، وهذا في نفس الوقت الذي حذر فيه الرسول صلى الله عليه وسلم من صفة الكذب أشد التحذير فقال : “إن الكذب ليهدي إلى الفجور وإن الفجور ليهدي إلى النار”، وقالت عائشة رضي الله عنها : (مَا كَانَ خُلُقٌ أَبْغَضَ إِلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْكَذِبِ)

وقد قرن صلى الله عليه وسلم جواز كذب الرجل على زوجته بجواز الكذب في الحرب ، والكذب في الحرب يخدع الأعداء ويؤدي إلى النصر عليهم ،فهو كسب عظيم للمسلمين وفرح للمؤمنين. وكذلك قرن صلى الله عليه وسلم جواز الكذب على الزوجة بجواز الكذب للإصلاح بين المتخاصمين، وفي الإصلاح بينهم نبذ للخلافات واستدامة للمودة بين المسلمين وهذا يؤدي إلى تماسك المجتمع المسلم ليكون صفاً واحداُ كالبنيان المرصوص وللحفاظ على وحدة الجماعة المسلمة وعدم فرقتها كما قال صلى الله عليه وسلم: “الجماعة رحمة والفرقة عذاب”.

ولكن ما الحكمة من جواز كذب الرجل على زوجته كقوله لها أنت أجمل من رأت عيناي أو أنا أحبك كثيرا  أو أشتاق إليك كثيراً كلما فارقتك أو أنت ماهرة في ترتيب المنزل أو أنت متميزة في كذا وغير ذلك مما يتألف به قلبها ويشعرها بحبه لها وأهميتها  وتميزها عنده حتى لو لم تكن تلك هي الحقيقة؟

هذه الأمور على بساطتها هي عند المرأة من أهم الأمور في حياتها الزوجية إن لم تكن أهمها، وهي مع ذلك وسيلة فعالة لغرس بذور الحب والمودة بين الزوجين وإنجاح الزواج بإذن الله. وإن كان هذا الامر مهماً لكلا الزوجين إلا أن اهميته أكثر عند المراة بحكم غلبة العاطفة عليها، إذ أن ثناء الزوج على زوجته وإشعارها بأنها مرضية له ومتميزة عنده يسعدها ويشعرها بالاستقرارالعاطفي والنفسي ويجعلها تبدع في العطاء والتفاني . فعندما يكرر الرجل لزوجته هذه الكلمات الجميلة والمجاملات الرقيقة فأنها تعجب به وتحبه أكثر، وتزيدها هذه الكلمات البسيطة جمالاً وبهاء ونضارة. إذ تشعر أنها قد حازت إعجابه فتتفجر ينابيع الرضا والصبا والعطاء داخلها فتهدأ نفسها وتستمتع بحياتها معه كأجمل ما يكون وينعكس ذلك على محياها وعلى سلوكها معه فتبدو له أكثر جمالاً وحيوية وتفانياً، فيحبها إن لم يكن يحبها ويراها جميلة إن لم يكن يراها كذلك من قبل. وإن كان يحبها أو يراها جميلة فعلاُ فإن ذلك سيزداد دوماً بإذن الله تعالى. وهذا بمجرد الكلمات – وإن كان الحب ليس مجرد كلمة تقال – ولكن هذه الكلمات ذات أثر كبير على المرأة، ومن ذلك ما ورد أن عمر بن الخطاب قال لرجل: والله لا أحبّك حتى تحبّ الأرض الدّم،. قال: أفتمنعني حقّا؟ قال: لا، قال: فلا بأس، إنّما يأسف على الحبّ النساء[i].

والعكس بالعكس فإذا كان الرجل  يركز على العيوب ويشعر زوجته  بأنها غير مرضية له كأن يظل يردد على مسامعها أنه كان يتمنى لو تزوج امرأة بمواصفات أخرى  أو يظل يكرر أن شيئاً ما فيها  لا يعجبه أو أنه غير راض ولا سعيد بهذه الزيجة لكنه مضطر للإبقاء عليها لأي سبب. مثل هذه الكلمات تدخل المرأة في دوامة من الحزن واليأس فتمتلئ بالكآبة ويذهب بهاؤها ورونقها فيذبل جمالها وتختفي نضارتها، ومهما كانت جميلة تبدو غير جميلة ودائما تشعر بالخجل من زوجها والغضب منه أيضاً فلا تستطيع هي أن تشعر بالاستقرار معه ولا أن تكون كما يريد فيزداد نفوراً منها وهكذا.

 ولكن اذا أشعر الزوج زوجته بحبه لها واعتزازه بها فهي بطبعها سوف تحبه وتسكن إليه وتتمسك به.

جاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يريد أن يطلق زوجته معللاً ذلك بأنه لا يحبها، فقال له عمر: ويحك، ألم تُبْنَ البيوت إلا على الحب، فأين الرعاية وأين التذمم؟[ii]
والتذمم هو الاحسان إلى الشخص الذي إن لم تحسن إليه فإنك تستحق الذم. فتحسن إليه لئلا تُذم … فيحسن الرجل إلى زوجته وإن لم يكن يحبها حتى لا يُذم بترك الاحسان إليها.

ونفس الشيء ينطبق على الزوجة أيضاً فالرجل عندما يعلم أن زوجته معجبة به وتحبه وتقدره فإنه يسكن إليها ويزداد لها حباً ويحاول الحفاظ على حبها. ومن ذلك قصة المرأة التي سألها زوجها : هل تحبينني؟ واستحلفها بالله تعالى فقالت له :لا أحبك. فلما أخبر الزوج عمر بن الخطاب رضي الله قال لها عمر : « أنت التي تحدثين زوجك أنك تبغضينه ؟ » ، قالت : يا أمير المؤمنين إني أول من تاب وراجع أمر الله ، إنه يا أمير المؤمنين أنشدني بالله ، فتحرجت أن أكذب ، أفأكذب يا أمير المؤمنين ؟ قال : ” نعم ، فاكذبي ، فإن كانت إحداكن لا تحب أحدا ، فلا تحدثه بذلك ، فإن أقل البيوت الذي يبنى على الحب ، ولكن الناس يتعاشرون بالإسلام ، والإحسان “.

وأخيراً فالحب قد لا يكون موجوداُ في بداية الزواج ولكن يمكنه أن يتسرب إلى نفس كل واحد من الزوجين وينبت في قلبيهما ويظل ينمو ويكبر حتى يظللهما بدفئه إذا بذل كل منهما ما بوسعه لإحسان العشرة  والتحلي بمكارم الأخلاق وآداء الحقوق التي افترضها الله عليه للطرف الآخر وعمل على تقدير مشاعره  ومحاولة إدخال السرور عليه بالكلام الطيب والمجاملات الرقيقة. وبذلك تستمر مسيرة الأسرة بالأخلاق الطيبة وإحسان كل طرف إلى الآخر والتعاون على مهمة تربية جيل جديد قادر على حمل الأمانة ليؤدي مهمة الاستخلاف في الأرض والنهضة بالأمة من جديد بإذن الله تعالى.

___________________________________________________________________________

[i] الأثر ذكره المبرد في “الكامل في اللغة والأدب دون إسناد وكذا ذكره الجاحظ في البيان والتبيين وفي الحيوان ، والآبي في نثر الدر دون إسناد أيضا .

[ii] بحثت عن تخريجه فلم أجده برغم أنه مذكور في مواضع كثيرة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى